الأنثروبولوجيا الأميركية" تصوّت للمقاطعة: إنجازٌ رغم اللوائح السوداء وضدها!"
في خطوةٍ أولى اعتبرها البعض تاريخية، صوّت أعضاء المؤتمر السنوي لـ "جمعية الأنثربولوجيا
الأميركية" (AAA) لمصلحة قرار يقاطع إسرائيل أكاديمياً ويتبنى نداء المنظمات الفلسطينية الأهلية، الذي أطلق قبل أكثر من عقد من الزمن، بمقاطعة إسرائيل اقتصادياً وأكاديمياً وفنياً، والمعروف بالإنكليزية تحت اسم "BDS" (بي دي أس). وأيّدت القرار الأغلبية الساحقة من الحضور (88 في المئة)، حيث صوّت لمصلحته 1040 شخصاً مقابل معارضة 136. وجاء التصويت خلال المؤتمر السنوي للجمعية والذي عقد في مدينة دنفر الأميركية في نهاية شهر تشرين الثاني /نوفمبر الماضي.
لا يُعَدّ هذا القرار نهائياً، حيث سيصوّت عليه بشكل نهائي جميع أعضاء "جمعية الأنثروبولوجيا الأميركية" في الربيع المقبل، علماً أنها الجمعية الأكاديمية الأكبر في العالم والولايات المتحدة، ويصل عدد أعضائها إلى حوالي 12 ألف عضو. لكن التصويت "الأولي" يُعَدّ تاريخياً، وقد جاء بعد نقاشات مكثفة وبحوث عديدة أجراها أعضاء باحثون في الجمعية بتكليف من المجلس المركزي استمرت لثلاث سنوات. وتناولت النقاشات السياسات الاستعمارية والعنصرية للأكاديميا الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وخلصت إلى أن "إحدى المشاكل الرئيسية التي تواجه الفلسطينيين هي وجود نظام استيطان استعماري يرتكز على السيادة اليهودية وسلب الفلسطينيين ممتلكاتهم".
حرب اللوائح السوداء
لا يفرض القرار، في حال تمّ تبنّيه بشكل نهائي في الربيع، مقاطعة للأفراد الإسرائيليين كأفراد بل للمؤسسات البحثية والجامعات الإسرائيلية، بما في ذلك التعاون معها أو الاشتراك في مؤتمرات ومشاريع من تمويلها. وقد سبق أن صوّتت جمعيات أكاديمة أخرى لمصلحة المقاطعة، من بينها "جمعية الدراسات الأميركية" (ASA). وتعود أهمية تصويت "جمعية الأنثربولوجيا الأميركية" إلى أسباب عدّة، من بينها حجم هذه الجمعية وعدد أعضائها وأهميتها على الخريطة الأكاديمية الأميركية. وإذا أردنا أن نضع هذا القرار في سياقه الأوسع، لا بدّ أن نأخذ بعين الاعتبار أموراً عديدة قد تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة ببعضها، إلا أنها ذات ارتباط وثيق ولا يمكن فصلها عن بعضها البعض. ومن بين تلك الأمور، ترد الحرب الشرسة التي تشنّها المنظمات الصهيونية وأفراد مؤيدون للفكر الصهيوني في الولايات المتحدة ضد أيّ مؤسسة أو فرد يؤيد المقاطعة ويوقع على عريضة بهذا الصدد. فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت مؤسسة "عمخا" الصهيونية، ومقرّها كاليفورنيا، بنشر "قائمة سوداء" تشمل أسماء مئات الأكاديميين في الجامعات الأميركية المختصين بحقل دراسات الشرق الأوسط، مع أسماء جامعاتهم والأقسام التي يدرّسون فيها، متهمةً إياهم بمعاداة إسرائيل لمجرد توقيعهم على عريضة خلال الحرب الأخيرة على غزّة تطالب بمقاطعة الجامعات الإسرائيلية لارتباطها وارتباط عملها بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية. وناشدت طلاب الجامعات عدم التعامل مع هؤلاء الأساتذة وعدم أخذ دروس معهم، بما يشكّل تحريضاً سافراً ضدهم.
والكثيرون في الأوساط الأكاديميّة في الولايات المتحدة يتذكّرون الحرب الشرسة التي شنّت على المفكّر والأكاديمي الفلسطينيّ الراحل إدوارد سعيد، والتي وصلت حدّ التهديد بمهاجمة مكتبه واتهامه بالإرهاب. ومع أن المناخ السياسي تغيّر بعض الشيء، إلا أن ترهيب الأكاديميين الذين يجاهرون بدعمهم للقضية الفلسطينية ما زال مستمرّاً. فقد حرم أكاديميون من تثبيتهم كأساتذة بسبب أبحاثهم وآرائهم. ومن أشهر الأمثلة، الحرب التي شنّها الصهاينة ضد الباحث والمفكر الأكاديمي الأميركي نورمان فنكلستين والتي أدّت إلى عدم تثبيته في جامعة دوبول الأميركية في مدينة شيكاغو. وكان فنكلستين قد انتقد مؤرخين صهاينة واتهمهم بتحريف وثائق تاريخية من أجل الدفاع عن إسرائيل والمشروع الصهيوني. كما ألّف كتاباً مهمّاً يتعرّض لقيّام المؤسسات الصهيونية في الولايات المتحدّة باستغلال المحرقة "الهولوكوست" من أجل مصالحها الخاصة وعلى حساب الناجين منها. وأثارت كلّ هذه الكتابات زوبعة من التحريض ضده، خاصةً أنه ينحدر من عائلة يهودية أميركية نجت من المحرقة، ما أضاف بعداً أكثر تعقيداً على الأمر، وأدى إلى استشراء الصهاينة في حربهم ضده. وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير تتمثل في المواجهة التي دارت بينه وبين آلان درشوتز، الحقوقي الشهير والأستاذ في جامعة هارڤارد والمعروف بمساندته التامة لسياسات إسرائيل ودفاعه المستميت عنها. فقد كشف فنكلستين تهافت درشوتز في كتابٍ كان قد نشره الأخير العام 2003 بعنوان "في الدفاع عن قضية إسرائيل"، وبيّن قيام درشوتز بسرقة الكثير من الحجج والمعلومات في الكتاب من مصادر أخرى. وكان لدرشوتز دور كبير في محاربة فنكلستين.
وأدّت تغريدات ستيفن سلايطة، الأكاديمي الأميركي من أصول أردنية، المعارضة للحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة إلى سحب إدارة جامعة إلينوي لقرار تعيينه ثم إقالته. قراراتٌ وأحداث كهذه تخلق جواً من الخوف بين الأكاديميين، وخاصة الشباب منهم أو غير المثبتين في عملهم، حيث يخاف هؤلاء أن تؤثر مواقفهم السياسية أو حتى بحوثهم على قرارات تعيينهم ومن ثم تثبيتهم. ومن هنا، يأتي تبني جمعيات ومؤسسات أكاديمية لقرارات المقاطعة كحدث ذي أهمية قصوى، لأنه يخلق سنداً للباحثين الداعمين للقضية الفلسطينية، كما يظهر انتشار التأييد. ما يمكنه أن يشكل بحدّ ذاته ورقة ضغط على الأكاديميات، وتعاملها مع الجامعات الإسرائيلية.
حصارٌ في الفنون والآداب أيضاً
لا تقتصر مسألة محاربة مؤيدي القضية الفلسطينية على المجال الأكاديمي في الولايات المتحدة، بل تطال الفنون والآداب. وهناك، تراها تتخطى الاعتراضات المعتادة لتأخذ شكل التخويف لأكبر المسارح الأميركية بسحب الاستثمارات والتبرّعات منها لمجرد عرض عمل فني من وجهة نظر فلسطينية أو محاولة لطرح وجهة النظر الفلسطينية للأمور. وهو ما حصل على سبيل المثال عند عرض أوبرا "موت كلينغهوفر" في نهاية العام الماضي في نيويورك، والتي تناولت قضية خطف باخرة "أكيلي لاورو" الإيطالية في العام 1985على يد فدائيين فلسطينيين. وتأخذ الأوبرا الحدث التاريخي وتحاول خلق حوار / جدل حول قضية "العنف" وخيارات "الأبطال" والظروف المحيطة بهم والتي أدت لاتخاذهم تلك الخيارات. اضطر القائمون على الأوبرا لتغيير بعض المشاهد نزولاً عند رغبة بعض المانحين الذين هددوا بسحب تبرعاتهم لاستيائهم من عرض الأوبرا بالدرجة الأولى، وإعطاء صوت "للإرهابيين" الفلسطينيين. بل إن الاحتجاجات المنددة بالعمل وصفت أصحابه والقائمين على برنامج الأوبرا بأنهم أناس ملطخة أياديهم بالدماء!
يقابل هذا الدعم المتزايد لحركة المقاطعة في الولايات المتحدة على مستوى الأكاديمية والمؤسسات المختلفة غير الرسمية، دعماً أوروبياً وعربياً متزايداً على مستوى المجموعات والمؤسسات الأهلية. لكن، هناك محاولات من الطبقة السياسيّة لبتره. إذ أقرّ الكونغرس قانوناً يحارب مقاطعة إسرائيل، ويطالب بتقرير مفصّل حول المؤسسات الرسمية والاقتصادية التي تقوم بذلك خارج الولايات المتحدة.
يأتي ذلك في وقت لا ترى دولٌ عربية أيّ حرج في تقوية علاقتها مع دولة الاحتلال، فقد افتتحت إسرائيل مؤخراً مكتباً لها في أبو ظبي، ليكون الأول على مستوى دبلوماسي في دول التعاون الخليجي. وفي هذه الأثناء، تفشل السلطة الفلسطينية في أداء أيّ دورٍ إيجابيّ قريب من نبض الشارع الفلسطيني، تصبح فيه حركات وخطوات مقاطعة من هذا النوع بمثابة عمل مناهض للاحتلال مكرّس لدعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني على أرضه وفي الشتات.
[يُنشر المقال ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" وملحق "فلسطين" لجريدة السفير]